أعمدة

أحمد المسلمانى | يكتب : الثورة ليست مستمرَّة

%d8%a3%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d9%84%d9%85%d8%a7%d9%86%d9%8a

( 1 )

لا أرى الثائر العالمى تشى جيفارا «أسطورة» على النحو الذى يراه آخرون، بل إننى أرى أنه لم يكن يستحق كل هذه الشهرة وكل هذا المجد الذى أحاطَ به. ففى العالم ثائرون كبار هم أعظم وأقْيَم كثيرًا منه وفى العالم العربى وحده فإن المستوى النِّضالى والأخلاقى للمجاهد الكبير عمر المختار فى ليبيا، والأمير عبدالقادر فى الجزائر وعبدالكريم الخطابى فى المغرب.. هو أعلى وزنًا من تجربة جيفارا. كما أن معارك الحرية التى خاضها الزعيم أحمد عرابى، ومعارك الاستقلال التى خاضها الزعيم سعد زغلول كلها لا تقل روعةً وبسالة عن تجربة جيفارا.

( 2 )

فى كتابى «مصر الكبرى» كتبتُ أن جمال عبدالناصر أفضل من جيفارا، وفى كتابى «خريف الثورة» تحدّثت عن مناقشاتى المطوّلة مع الرئيس الجزائرى الأول أحمد بن بِلة.. وهى المناقشات التى أكّدت لى أن جيفارا كان فنانًّا أكثر منه ثائرًا، وكان أديبًا «ما بعد حداثى» أكثر منه مسؤولاً جادًّا عن ثورةٍ أو دولةٍ.

كان جيفارا بلا شك مناضلاً جريئًا وعَمِل ضدَّ قوى استعمارٍ واستكبارٍ غاشمةٍ.. وظلّ حتى اللحظة الأخيرة نموذجًا للشخص الذى لا يخاف المواجهة ولا يهاب الموت. ولكن الرؤية التى امتلكها جيفارا فى فلسفة الثورة.. كانت رؤية فوضوية.. لا تقودُ إلى شىء.

وقد روى لى الرئيس بن بِلة الكثير عن صديقه جيفارا، وعن شهور استضافة بن بلة لجيفارا فى الجزائر، وعن خلاف جيفارا وكاسترو.. كما حدثنى الرئيس الأسبق مطولاً عن رؤية جيفارا فى إشعال ألف ثورة.. وعن استمرار العمل الثورى كغاية دائمة.. وعن ضرورة أن تبقى «الثورة مستمرة».. لا نهاية لها.

( 3 )

لقد ألْهمَ جيفارا آلاف الفوضويين حول العالم بتلك الخرافة.. «الثورة مستمرة».. وروّج تابعوه من «اللا عقليين» و«اللا وطنيين».. المقولات الوهميّة حول الثورة العالمية.. والثورة الدائمة.. وحول إسقاط الجيوش.. وإسقاط الدول.

ويَعتبر «الجيفاريون» و«الاشتراكيون الفوضويون» مجرد وجود الدولة.. عملاً عدائيًا للثورة.. وأن المعادلة بينهما هى معادلة صفريّة.. إما دولة بلا ثورة أو ثورة بلا دولة.. والمثاليّة الثورية هى أن تكون لدينا ثورة بلا دولة.

( 4 )

لقد وَجَدَت هذه الأفكارُ البدائيةُ الركيكة صدىً لدى بعض ثوار يناير 2011 فى مصر. وعلى الرغم من أن هذه الأفكار الفوضوية هى أفكارٌ بليدةٌ.. لا تحمل أى قيمة علميّة أو فكرية.. ولا يمثل أصحابُها أىَّ وزنٍ معرفىٍّ أو ثِقلٍ فلسفى.. إلّا أن مُحدِثى الثقافة.. وقُراء الفيس بوك قد وجدوا فيها إبهارًا شديدًا.. قاموا على إثرها بحملة إبهارٍ لمن هم أكثر جهلاً وأدنى معرفةً.. لنجد فى نهاية المطاف مجموعات من الحمقى الذين يتحدثون بثقةِ البلهاء عن تفكيك الجيش وإسقاط الدولة.. وإعادة البناء من جديد.. وأنّ الثورةَ مستمرةٌ حتى يتم الهدمُ التامُ.. ثم إعادةُ البناء.

( 5 )

لم يعد لأيديولوجيا «الثورة مستمرة» أيُّ قيمة لدى المصريين، ولم يعد للفوضويين ذلك الإبهار الذى حازوه فى لحظة انهيار فكرى وسياسى فى بلادنا. وبات الشبابُ يدرك الآن أن مثلَ هذه الأفكارِ المتطرفة أصبحت تُثيرِ السخريةَ وتبعث على الضحك أكثر مما تثير من جديّة النقاش أو تبعث على التأمل والحوار.

ولقد لفت انتباهى، مؤخرًا، ما نشرته الصحف العالمية حول الشاعر والفنان الكوبى «عمر جيفارا» ابن «تشى جيفارا». تحدث «عمر جيفارا» إلى وسائل الإعلام، وقال إنّهُ ضد رؤية والده فى أن الثورة مستمرة.. وقال جيفارا الابن: «يجب أن تكون الثورة قصيرة جدًّا.. وأن تنتهى بتحقيق هدفها المباشر.. ويجب ألا تكون هناك ثورة دائمة.. لا توجد ثورة مستمرة».

( 6 )

أخطأَ جيفارا الأب وأصابَ جيفارا الابن.. ومن حُسْن حظِّ بلادنا أن الذين أغواهم طريق الفوضى الجيفارى.. يتراجعون وينكسرون، بينما يتقدَّم الذين يرَوْنَ أنّ منهجَ الحياةِ هو البناءُ لا الهدم.. والتشييد لا التجريف.. والدولة لا الثورة.

يرى المثقّفون والوطنيّون أن فلسفة البقاء والارتقاء هى فى إلغاء معادلة «الثورة مستمرة».. وتأسيس معادلة «الحضارة مستمرة».

حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى