أعمدة

أحمد المسلمانى | يكتب: شتاء الخروج


9ee28_أحمد-المسلمانى1إذن.. فإن الأستاذ محمد حسنين هيكل كان يدعو إلى «حرب تحريك».. أى «حرب محدودة» حتى لو حرّرنا مائة كيلومتر فقط.. من أجل جذْب أمريكا إلى القضية وقيادتها للتسوية، ثم إنّه بعد ذلك قال بوضوح.. إن أمريكا أصبحت محكومة من قبل هنرى كيسنجر.. وإن كيسنجر أقوى من الرئيس وإنه صاحب السلطة العليا فى البلاد.

وبناءً عليه.. فإن الهدف الرئيسى لمصر- فى رأى هيكل- هو القيام بحرب محدودة من أجل لفت انتباه هنرى كيسنجر ليقود عملية التسوية.

السؤال هنا: ماذا حدث إذن؟.. فجأة.. انقلب «الأستاذ» على «الأستاذ» وأصبح «هيكل ضد هيكل».. وراح يتهم السادات بالضعف والانبطاح!

(1) كان تقدير الرئيس السادات أن الولايات المتحدة تعتبر إسرائيل قطعةً منها.. وأن هذا الاعتبار قد وَضَعَ حدوداً للسلاح.. وفَرَضَ حتميّة اللجوء للسياسة لتكون «الجزء الثانى» من معركة التحرير. كان السادات يُدرك أن معظم إدارة العالم.. وكل إدارة البيت الأبيض.. قد أصبحت تحت سطوة هنرى كيسنجر.. أول حاكم يهودى فى التاريخ الأمريكى.

(2) رأى السادات أنه لا يجب أن تكون «الحرب للحرب».. بل «الحرب من أجل التحرير».. وربما خَشِىَ السادات من أن يحارب أمريكا بشكل مباشر.. أو شبه مباشر. وربما أدرك السادات- أيضاً- أن القاهرة ليست أغلى عند واشنطن من المدن اليابانية.. وأن الرئيس «اليهودى» لأمريكا قد لا يتجنب الخيار النووى. وقد أراد السادات عبر خطابه «العلنى والسرى».. أن يَضَعَ إطاراً للحرب خشية الانزلاق بعيداً عن الغاية.. وبعيداً عن القدرة.

(3) لقد تشّرفتُ بتحرير مذكرات الفريق الشاذلى- التى لم تُنشر كاملة بعد- وقد سألته ذات مرة: ماذا لو كانتْ أمريكا أو إسرائيل قد استخدمت السلاح النووى فى حرب 1973؟.. وكان ردّ الفريق الشاذلى: «لم نَضَع هذا الاحتمال فى خطتنا.. لأننا لو وضعناه ربما لم يكن من السهل اتخاذ قرار الحرب». ثم أَرْدَفَ الفريق الشاذلى قائلاً: «وضعْنا هذا الاحتمال فى دائرة التفكير.. وليس فى نطاق التخطيط».

(4) ما أودُّ أن أقوله بوضوح: الأستاذ هيكل هو الذى قال إن الحرب مستحيلة، وإن مصر تحتاج إلى استخدام السلاح النووى من أجل تدمير خط بارليف، وهو الذى طالب بالحرب المحدودة لتحرير عدة كيلومترات كحد أقصى.. وهو الذى قال إن الحل الوحيد هو إدخال أمريكا فى التسوية. والأستاذ هيكل هو الذى قال: إن الحل فى يد أمريكا، وأمريكا فى يد كيسنجر.. وبدون كيسنجر لا حرب ولا سلام، ثم إن الأستاذ هيكل هو الذى انقلب على نفسه، وجعل من كل ما سبق «لائحة اتهام» للرئيس السادات.. لأنه تفاوض مع كيسنجر على الحل السياسى.. بعد أن اتخذ قراره التاريخى بالعبور والانتصار!

(5) يقول الأستاذ هيكل إنّه كان أول من تحدّث عن الاتصالات بين السادات وكيسنجر، فى حديثه لصحيفة «الأهالى» عام 1983.. وقال «الأستاذ» إن ذلك كان قبل أن ينشر كيسنجر كتابه «سنوات القلاقل» الذى تحدّث فيه عن هذه الاتصالات. وهذا قولٌ غير صحيح.. وقد ردّ عليه الدكتور عبدالمنعم سعيد فى «الأهرام» فى مقال بعنوان «تعليق لابد منه على مقال الأستاذ هيكل».. وكان من بين الردّ.. أن الرئيس عبدالناصر كان قد سمح بقناة اتصال بين مصر وأمريكا عقب هزيمة 1967.. وأن الفريق أول أمين هويدى قد ذكر فى كُتبه أن قناة الاتصال بين مصر وأمريكا بدأت عام 1968. وكان من بين الردّ أيضاً.. أن كتاب هنرى كيسنجر «سنوات القلاقل» قد صدر قبل أحاديث «الأستاذ».. فقد صدر كتاب كيسنجر عام 1982، أىْ قبل حديث «هيكل» بعامٍ كامل!

(6) إن الأستاذ هيكل صاحب «حرب الكيلومترات».. يتناسى دوماً أن السادات هو صاحب فكرة «توسيع الحرب» و«تطوير الهجوم».. وأن الفريق الشاذلى- وهو بطل الحرب ونجمها الأول- كان ضد تطوير الهجوم لأسبابٍ لها وجاهتها وقوتها. كان السادات مع تمديد ساحة القتال لا تحجيمها.. رغم رسائله السياسية العكسية لهنرى كيسنجر. ويعترف كيسنجر فى كتابه «سنوات القلاقل» بالأفق الاسترتيجى للسادات.. وأنّه نجح فى خداع الولايات المتحدة بكامل مؤسساتها وأجهزتها حين قام بالحرب.. ثم نجح فى خداعها مرة أخرى بتطوير الهجوم رغم رسائله.. بأنه لن يطور الهجوم. يصف كيسنجر قرار حرب أكتوبر بـ«الخداع الأول».. ويصف قرار تطوير الهجوم بـ«الخداع الثانى».

(7) كم هو صادمٌ هذا التحليل بالنسبة للأستاذ.. ذلك أنه شيَّد مساحات واسعة من التحليلات الواهية التى ترفع هنرى كيسنجر فى الدهاء والذكاء إلى المستوى غير البشرى.. وهو ما يتوافق- للأسف- مع الدعاية الصهيونية حول عبقرية هنرى كيسنجر الخارقة للطبيعة.. وهى دعاية مخالفة للحقيقة.. ذلك أن عشرات الساسة الأمريكان يفوقون كيسنجر دهاءً ومعرفةً.. ولكن الدعاية الصهيونية هى التى أضاءت على «أسطورة كيسنجر» وأطفأت الآخرين. وقد ذكرتُ جانبا من ذلك فى كتابى «ما بعد إسرائيل».

كم هو صادمٌ أيضا.. لأن الخطّ الفكرى الدائم لـ«الأستاذ».. هو التقليل من شأن العقليّة العربيّة، والحطّ من شأن الفكر الاستراتيجى المصرى.. وأنّه إذا التقى كيسنجر والسادات.. فمن المؤكد- عنده- أن كيسنجر سيلعب بالسادات.. وأن السادات سيكون أضحوكة أمام كيسنجر!

حاول «الأستاذ» أن يجعل من قائد الانتصار رمزًا للانكسار.. ومن «مجرم الحرب» قاتل الأطفال فى فيتنام.. رمزًا للقوة والمكانة. حاول «الأستاذ» أن يجعل من «السادات» أكذوبةً تُحلِّقُ فى الفراغ.. ومن «كيسنجر» أسطورة تمشى على الأرض!

■ فى قولة أخيرة.. لقد بدأ «خريف الغضب» فى «شتاء الخروج».

إلى الوقفة الرابعة عشرة بمشيئة الله.

حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر.

المصدر

Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى