أحمد رشاد | يكتب : مكحلة
انتهيت أخيرا من إجراءات نقل ملكية منزل قديم اشتريته مؤخرا بغرض هدمه وبناء برج سكني مكانه البيت قديم جدا بعبق مدينتا العتيقة، يتكون من طابقين أعمدته وسقفه من الخشب ونوافذه كبيرة جدا تشبه المشربيات، وهو آيل للسقوط.
يُحكى أنه بني قبل أكثر من مائة عام لتاجر يوناني عجوز كون ثروة هائلة من تجارته في القطن المصري، بناه لزوجته الشابة الجميلة التي أحضرها من اثينا.
في الصباح، حاولت فتح الباب الرئيسي للبيت لكن لم اتمكن من ذلك، فأكثر من نصفه مدفون تحت الارض بسبب ارتفاع الشوارع من حوله، أحضرت نجارا خلع الباب، وتمكنت من دخول البيت المهجور من سنين لا اعرف عددها.
ما أن صعدت أول درجات السلم المؤدي للطابق الثاني حتي انهالت على رأسي خيوط عناكب رمادية محملة بالغبار، ورأيت علي درجات السلم ثوب ثعبان وفضلات فئران. دفعت باب الطابق العلوي ببطء وحذر، صوت صرير و(تزييق) الباب محزن جدا وكأنه يبكي حزنا علي أهل الدار السابقين.
البيت خالٍ تماما من أي شئ سوى من سرير حديدي قديم ليس عليه اي فرش، وشاهدت طائرا اسوداً محلقا في سقف المنزل أرتطم برأسي اكثر من مرة في محاولاته الهروب من النافذة. ولما حاولت أن أبتعد عنه صدمت السرير فسقط علي الارض وتفكك. لاحظت أن لفافة ورقية سقطت من ماسورة السرير، فتحتها لأجدها ورقة مكتوبة بلغة أجنبية بداخلها مكحلة نحاسية قديمه. تفحصت باقي اركان المنزل، كل شئ يؤكد انه مهجور من عشرات السنين.
جلست علي أحد أدراج السلم وأخرجت هاتفي لأستخدم مترجم جوجل لترجمة الخطاب من لغته إلى العربية التقطت صورة للخطاب وأرسلتها للتطبيق الذي أخبرني أن اللغة يونانية، وإليكم نص الخطاب:
(ابنتي العزيزة بيرنا أفتقدك كثيرا بعد أن سافرت على الباخرة متجهة إلى مصر، انطفأ نور الحياة في بيتنا أشعر بمدى معاناتك بعد ان أرغمك والدك على الزواج من ذلك الكهل لكن يا إبنتي تعلمين ضيق الحال الذي حل بنا بسبب الحرب العالمية، فالمصنع الذي يعمل به والدك سرح العمال، والجيش النظامي أجبر أخاك ستيفن على الانظمام الي قوات الحلفاء… الكثير من جيراننا هاجروا إلى الشرق الاوسط انتظر أول إجازة يعود فيها ستيفن وسنهرب إلى الإسكندرية.
أرسلت إليك حلوى كرات اللوز التي تحبينها، وأرسلت مكحلة سحرية أحضرتُ كحلها من عند العرافة العمياء، لا شك تذكرينها، قالت لي عندما تكتحل بها عيون ابنتك سترى زوجها أصغر من نصف عمره، وتراه شديد الوسامة تكحلّي بها يا حبيبتي.
أشكرك كثيرا علي الهدايا الفستان القطني رائع جدا، وإصّيص الياسمين رائحته جميلة لم أشمم مثلها من قبل أما الحذاء الجلدي الذي أرسلتيه لوالدك فطبيعي ومريح جدا، وبذلة ستيفن تبدوا أحدث صيحة ربما هو أول من يرتدي مثلها في اليونان والخمس جنيهات استبدلتها بعملتنا المحلية، الدرخما، وستكفينا لمدة ثلاثة شهور إضافية.
كل الشكر لك يا ابنتي. تحياتي وقبلاتي الحارة.
والدتك المحبة صوفيا
تحرر في 12/10/1917)
فرحت كثيرا بهذا الكنز، المكحلة، أكثر من فرحتي بصفقة شراء البيت، وخططت لأن تستعمل زوجتي من هذه المكحلة نظفتها من صدأ تأكسدِ النحاس حتى أصبح لها بريق كالذهب، وفتحتها فوجدت أكثر من نصفها كحل هذا جيد.
ذهبت الي محل هدايا وطلبت أن تلف بشيء لائق كهدية، وفي المساء اشتريت باقة ورد وقدمتها لزوجتي مع المكحلة، أقنعتها أني اشتريتها من محل أنتيكات كانت في الأصل لأميرة من أسرة محمد علي، فصدقت كذبي وفرحت بها كثيرا.
عجيب أمرها، لا تُعجب بالأشياء ولا الملابس إلا عندما يكون سعرها مبالغ فيه. قلت لها: ألا تجربي كحل الأميرات في عينيك يا حبيبتي؟ ابتسمت بكبرياء ووقفت أمام مرآتها لتكتحل وتتجمل، وانا أتخيل فرحتها عندما تراني بعد أن تضع الكحل ياه! ستراني في عمر الشباب، وتراني أشد وسامة وأشد بأسا كما جاء في نص الخطاب.
بعد ثلاث ساعات خرجت من غرفتها متزينة كنت أنا قد غفوت علي كرسي الأنتريه، وصحيت مفزوعا على صراخها:
حرامي، حرامي… ممسكة بيدها عصا المكنسة.
صحت بها: اهدئي أنا زوجك أبو أولادك.
ردّتْ: “هذا صوتك لكن أين كرشك وصلعتك؟ لا أنت لست زوجي.
كان بجواري كوب ماء، وضعت الكثير منه في فمي ونفخته في وجهها حتي أبطل مفعول الكحل فركت عينيها وقالت:
هذا انت! لا حرمني الله من كرشك وصلعتك، ولا من تجاعيدك. ما هذا الكحل؟ إنه سحري !
اضطررت أن أقول لها الحقيقة، فاندهشت وضحكت كثيرا وقالت: أتدري كم كنت جميلا وأنا مكتحلة؟ دقيقة سأضع الكحل مرة أخري.
وبعد ساعة رجعت والكحل بعينيها تتأملني وتقترب مني، وقالت بصوت عذب: بما أنك عدت إلى ريعان شبابك، انزل وحياة عيالك غيّر لي أنبوبة البوتجاز.