أعمدة

عمر طاهر | يكتب : قصتان مناسبتان ليوم الأحد

عمر طاهر

مجدى..

مجدى شاب مسيحى.. يعمل (دهبنجى) كما يحب أن يسمى مهنته التى نسميها جميعا (جواهرجى)، ثلاثينى، أب لطفلتين، يعيش فى المنيل، أهلاوى متعصب، مناضل من منازلهم، لكنه شارك فى جمعة الغضب.

خاف مجدى فى هذا اليوم وهو الشخص غير الخبير بأمور المظاهرات من أن يخرج من بيته منفردًا حتى لا يصبح هدفا سهلا لرجال الأمن المتحفزين، كان كل ما يعرفه مجدى أن المظاهرات ستنطلق من المساجد عقب صلاة الجمعة.. فلم يكن هناك بديل عن أن يختبئ وسط جموع الخارجين من أى مسجد حتى يكون فى أمان قدر استطاعته.

مجدى له خبرة سيئة فى ارتياد المساجد، منذ عامين توفى والد أحد أصدقائه الذين يعيشون على بعد عمارتين منه، وجد مجدى فى منزل المتوفى وانتظر حتى لحظة حمل النعش إلى أقرب مسجد للصلاة عليه، كان مجدى يشارك فى حمل مقدمة النعش وما إن دخل المسجد حتى استقبله أحد أبناء المنطقة المتشددين والذى يعرف أن مجدى قبطى.. احتد هذا الرجل على مجدى وطرده من المسجد، ودافع أقارب المتوفى عن مجدى، لأن أسلوب المتشدد كان فظا وكادوا يتشاجرون معه لكن مجدى آثر السلامة، فانسحب سريعًا من المشهد وقدم واجب العزاء فى بيت المتوفى.. خاف حتى أن يقدم واجب العزاء فى دار المناسبات الملحقة بأكبر مساجد المنيل.

يوم جمعة الغضب قرر مجدى أن يبحث عن مسجد بعيد عن المنيل، يعرف مجدى أن المنيل هى المنطقة الوحيدة فى مصر التى يعرف أهلها بعضهم البعض جيدًا، وكأنهم عائلة واحدة، خرج مجدى من المنيل باتجاه مستشفى قصر العينى، اقترب من أحد المساجد هناك فسمع الخطيب يقول كلاما يدعو إلى عدم الخروج فى المظاهرات وعدم الخروج على الحاكم وعدم الاستجابة للدعوات المشبوهة التى لا يعرف أحد من وراءها.

على بعد خطوات وجد مسجدا آخر وكان كلام الخطيب مبشرًا، إذ كان يتحدث عن الظالمين والفساد وأمور أخرى تلائم الهدف الذى خرج بسببه مجدى من منزلهم فى هذا اليوم.

اقترب مجدى من مدخل المسجد الخلفى، حيث يقف كثيرون فى انتظار أن تقترب الخطبة من نهايتها فيخلعوا أحذيتهم وينضموا إلى صفوف المصلين.

فى لحظة قدرية تماما وجد مجدى عامل المسجد وهو رجل فى حدود الخمسين، يحمل حصيرة كبيرة مطوية تحت ذراعه ويمد طرفها ناحية مجدى طالبا منه أن يساعده فى فرشها (علشان الناس تصلى) ارتبك مجدى لثوان، لكنه استجاب لرغبة الرجل، وإمعانًا فى إخلاصه للمهمة التى كلف بها خلع حذاءه حتى يستطيع أن يضم الحصيرة على الحصيرة التى تسبقها، فى ثانية كان الرجل يدعو دعاء ما قبل إقامة الصلاة وتوافد الواقفون على الحصيرة التى شارك مجدى فى فرشها وأحاطوا به من الأمام ومن الخلف وجلسوا فوجد نفسه الواقف الوحيد فجلس هو أيضا.

شعر مجدى بعد ثوان أن ما يفعله ينطوى على خطأٍ ما، إن لم يكن بحسابات مسيحيته فعلى الأقل بحسابات المسلمين الذين قد تفسد صلاتهم بسببه وهو يقف ملاصقا لهم فى صف واحد.

استجمع مجدى شجاعته ووقف وركز، بحيث يخطف حذاءه فى ثانية ويختفى، فعلها لكنه اصطدم بعامل المسجد، لم يقل له العامل شيئا لكن النظرة التى رآها فى عينيه جعلته يقول له (نسيت أتوضى).. أشار إليه العامل باتجاه الممر الصغير المؤدى لدورات المياه فتسلل مجدى إلى هناك.

بدأت الصلاة.. يتذكر مجدى أنه قد تلا أثناء وقوفه فى هذا الممر صلواته بسعادة نادرًا ما تتكرر، صلى حتى أصابته (حمقة) فكتمها حتى لا تنسال دموعه فى بداية يوم ستنهال فيه الدموع بلا حساب بفعل القنابل المتوقعة، لكنه لم يستطع أن يكتمها عندما انتهت الصلاة وانظلق أول هتاف من قلب المسجد (حسنى مبارك.. باااااطل).

كان يومًا صعبًا على مجدى وهو شخص سمين بعض الشىء وينهج إذا ما كانت سيارته على مطلع كوبرى (على حد تعبيره) لكنه انتهى نهاية لم يكن يتوقعها وهو يرى الجنود تستدير وتغادر المشهد وهى مشتتة، بينما ميدان التحرير من بعيد يلوح ويختفى من بين دخان القنابل المسيلة للدموع.

بعد أن انطلق أول هتاف من داخل المسجد همّ مجدى بالخروج من الممر المؤدى إلى دورات المياه فوجد عامل المسجد يدخل وهو يحمل الحصيرة المطوية، لم يقل الرجل له شيئا، لكن مجدى شعر بخجل حقيقى كمسلم ضبطه شخص ما (مزوغ من الصلاة).. بحث عن حجة جديدة لكن قبل أن يفتح فمه قال له عامل المسجد (ماعلش يا ابنى نسيت أقول لك إنهم قاطعين الميه من الصبح).

(2)

سكر.

“تعالَ سلِّم على سيدك”

قالها الأب فاقترب الطفل من جده العائد لتوه من المستشفى، والمستلقى فى فراشه منهكا ثم قبّل يده فقبل الجد جبهته.

دخل العم وعلى جلبابه آثار التراب قائلا “كله تمام” يعرف الطفل أنهم قد بتروا قدم الجد فى المستشفى، وأن العم ذهب إلى مدفن العائلة ليدفن القدم المبتورة.

قال الجد: هانت.. المدفن لا يُفتح  فقط من أجل مجرد قدم تافهة.

راجعوه فيما قاله فأنكر عليهم حزنهم قائلا: يعنى هافضل عايش على طول طب ده حتى يبقى وجع قلب، ابتسموا بمرارة فقال: لا بد للنقطة أن تعود إلى البحر.

قال الأب مشيرًا ناحية الطفل: كان عايز يروح معاهم المدفن وحوشناه بالعافية.

سأله الجد عن السبب، فقال الطفل: علشان أقرأ الفاتحة لرجلك.

ضحك الجد حتى دمعت عيناه، ثم قال له حفيده: أمى دايما تقول جدك رِجل جوّه ورِجل بره، أنا النهارده فهمت.

هاج الأب ونزع الحفيد من أحضان الجد بقسوة، وعنّفه على كلامه فغضب الجد إلا أنه لم يستطع أن يمنع الابن من اصطحاب الحفيد إلى الدور السفلى للمنزل.

حكى لأمه ما حدث فلطمتْ وجهَها، سألها لماذا بتروا قدم جده؟ فقالت له: السكر.

كل رجال وشباب العائلة مصابون بهذا المرض، يعرف أنه سيزوره يوما، هكذا أفهمته أمه وهى تقنعه بالإقلال من شراء الحلوى عمّال على بطّال، سألها إن كان السكر

(بيوجع) قالت له سيوجعك عندما تصبح فى سن سيدك.

تخيّل نفسه عجوزًا بقدم مبتورة وقارن بين تلك المأساة وحبه للحلويات والطعام عموما، فقرر ألا يتخلى عن حبه، لكنه لن يفوت منذ هذه اللحظة فرصة للجرى أو لعب الكرة، سيلعب حتى يشبع بحيث لا يؤرقه بتر قدمه.

نام واستيقظ على صوت الجد عاليًا يصيح فى الجميع “ماحدش له دعوة” صعد درجات السلم حتى غرفة جده، ففهم أن الجد طلب منهم أن يحضروا له رغيفا شمسيا وبعض العجوة المحمرة فى السمن البلدى، حاولوا أن يثنوه عن رغبته، لكنهم فشلوا بجدارة، أحضروا له ما يريد فجلس يأكل بشهية واسعة، لمح حفيده يجلس فى أحد أركان الغرفة فشاور له ليجلس إلى جواره على السرير، جلس الطفل فصنع الجد لقمة كبيرة مليئة بالعجوة الساخنة وقدمها للطفل وهو يهمس له فى أذنه “كُلْ.. كل كويس قبل ما يقطعوا لك رجلك” غمز الجد بعينه للطفل فابتسم، بتقول له إيه يا حاج؟ سأل الابن فقال الجد: ماحدش له دعوة، سيدك بيقولك إيه؟ سأل العم فقال الطفل: ده سر.

احتضن الطفل سر جده وفرح به عندما وجده يتوافق مع ما توصل إليه بمفرده من قرارات.

فى صباح اليوم التالى استيقظ على الصراخ قادما من غرفة جده العلوية.

كان يقف فى ساحة المنزل بينما رجال العائلة ينزلون بالنعش على السلم، وما إن استقروا على آخر درجة حتى تسلل هو باتجاه الغرفة العلوية.

كان النعش يخرج من باب الدار والرجال يشيرون للنساء بغضب لمنع الصراخ، فغطى الصمت لثوان على المشهد، فى تلك اللحظة كان الطفل يصعد السلم وهو يغنى بصوت عال “الله عليك يا سيدى”.

لسنوات طويلة ظل الأب يحكى هذه الواقعة للجميع، ثم يتوقف فى منتصف الحكاية ليقسم، عليا الطلاق سمعت أبويا بيضحك جوه النعش، يكذبونه فيغلظ القسم، كان أبى يضحك طول الطريق حتى توقفنا بالنعش أمام المدفن.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى