أعمدةمقالات

عمر طاهر | يكتب : نسم علينا الهوى

عمر-طاهر

أقضى اجازتى فى بلدة بعيدة يربطها بالعالم قطار يمر بها مرتين أسبوعيا وطريق بمحاذاة الجبل، بلدة من النادر أن تطأها قدم غريبة زرتها بتوصية من ابنة البلدة صديقتى مليحة التى تعيش فى القاهرة منذ سنوات.

بلدة تعيش على إنتاج الطبيعة وعلى ما يصنعه أهاليها، فى كل بيت غرفة مليئة ببرطمانات الأجبان والمخللات والمربى والباذنجان المحشو بالصنوبر يرقد فى زيت الزيتون إلى جوار أجولة الحبوب والغلال والدقيق والأعشاب والخضروات والفواكه المجففة.

غرف ما أن تستنشق رائحتها مرة واحدة حتى تحفظها وستشعر بها بلا مقدمات تهب على القلب من الجهات الأربع وكأنها رائحة مطبخ الجنة، بلدة أهلها يجتمعون أسبوعيا على وليمة اللحم المطبوخ بالبصل وحلوى العجين بالزبد والعسل، وفيما عدا ذلك هم نباتيون تقريبا.

يسهر الرجال أمام البيوت كل ليلة ينهلون من بحر حكايات الكبار المليئة بالأساطير والحكمة وخلاصة العمر والمعرفة التى يقدمونها دون توقف للأجيال الجديدة، ويسهرن النساء على سطوح المنازل يحكين سيرة من رحلوا أو ماتوا وينقلن للبنات الجديدة تاريخ البلدة شفهيا بكل ما فى هذا التاريخ من أخلاق و أصول هى ثروة البلدة الحقيقية.

أصحو من النوم على صوت فيروز يملىء أركان بيت مليحة، أداعب جدتها التي تحمل الاسم نفسه قائلًا (مافيش أم كلثوم؟) فترد بقاعدة سأتبعها إلى نهاية عمري (فيروز للصبح والست لليل)،أستقبل النهار فوق السطوح بالقهوة المغلية و البسكويت بالمربى مستسلما للمساحات الخضراء الواسعة بتدرج الأخضر فيها، مراقبا لأسراب الطيور التى لا أعرف اسمها (أطلقت عليها اسم طيور المليحة).

تداعبنى الجدة قائلة لماذا لا تتزوج مليحة وتعيش معنا هنا؟، سألتها (وهاشتغل ايه؟) قالت لى إننى أستطيع أن أعمل مدرسا فى مدرسة البلدة و ضربت لى مثلا بـ(أليس) الفتاة الأمريكية التى جاءت إلى البلدة منذ سنوات مع سهيل ابن خالة مليحة الذى كان يدرس فى أمريكا و كانا قد تزوجا هناك و بعد عودتهما بسنة توفى سهيل و رفضت هى أن تعود إلى بلادها و استقرت فى البلدة كمدرسة للغة الإنجليزية نهارا و كممرضة ليلا،ثم سألتنى الجدة (تعرف تضرب حقن؟) كان العرض مغريا خاصة بعد أن رأيت مليحة و هى تقف فى مطبخ البيت الواسع تصنع عجينة بلح الشام.

تمر الأيام هنا وأنا أفكر فى عرض الجدة مليحة، أقول لنفسى أن البشر يموتون قبل أن يعيشون حياة واحدة حقيقة ربما لأنهم جبناء بطبعهم يخشون المغامرة وربما لأنهم لا يعرفون أن الحياة فرصة لا تتكرر كثيرا، فيظلوا هاربين من أن يعيشونها بقوة، وأنا الآن بصدد قبول عرض لأن أعيش الحياة للمرة الثانية بعد أن استنفذت حياتى الأولى فى القاهرة معظم أغراضها ولم يعد يربطنى بها سوى الجنسية.

أراقب طيور المليحة واسأل نفسى إن كان لها وطنا تعرفه وتعود اليه؟!.. قطع تفكيرى نداء الجد الذى طلب منى أن أصاحبه فى زيارة مقابر العائلة لمتابعة العمال الذين يبنون سورا جديدا حول المدافن، قلت له مداعبا (سور جديد؟ ليه هما الميتين بيزوغوا ؟) لم تنل المداعبة إعجابه لكنه قال لى بعد أن قرأنا الفاتحة على أرواح الموتى (هنا يرقد بسلام كل الذين أحبهم وإلى جوارهم بعض الغرباء الذين أصبحوا أبناء لهذه البلدة)، لم أفهم ماذا يقصد فنظرت ناحيته فى صمت، فقال لى وكأنه يجيب عن سؤال لم اسأله جملة كنت أسمعها لأول مرة “وطن المرء ليس مكان ولادته و لكنه المكان الذى تنتهى فيه كل محاولاته للهروب”.

shady zaabl

كاتب صحفي مصري مهتم بالمواقع الإلكترونية وإدارتها وكتابة المقالات في جميع الأقسام وذو خبرة في الصحافة والإعلام والمحتوى لـ 5 سنوات وفقً لدراسة أكاديمية وتطبيق عملي .
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى