أعمدة

فهمي هويدي | يكتب : الحقيقة قبل الإنصاف والمصالحة

 فهمى-أزمة مصر أعقد مما نتصور. ذلك انه لا أمل فى أى مصالحة أو اصطفاف وطنى ثابت الأركان قبل التعرف على الحقائق كما هى، وتلك عقدة لا سبيل إلى حلها فى الوقت الراهن.

(١)

قال بيان اتحاد طلاب هندسة عين شمس ان الطالب إسلام عطيتو اختطف من على باب الكلية وأن الداخلية قتلته. وقال بيان الداخلية ان الطالب ضبط فى وكر وتبادل إطلاق النار مع الشرطة التى ردت بقتله. وقدم الطلاب أدلتهم التى أثبتت أن الطالب أدى الامتحان واختفى بعد خروجه من باب الكلية. كما ان الداخلية استندت إلى التحقيقات فى إثبات وجهة

نظرها. وفى أجواء الاستقطاب الراهنة، تضامن البعض مع طلاب هندسة عين شمس، ودافع آخرون عن موقف الداخلية. وفى حين عكست وسائل الإعلام ذلك الانقسام، فإنه لم يتح لنا أن نعرف الحقيقة بالضبط، ومن خبراتنا السابقة فإن الحقيقة ستظل تائهة حتى ينساها الناس بمرور الوقت. شىء قريب من ذلك حدث فى حادث قتل شيماء الصباغ، التى كان حظها

أفضل بصورة نسبية، لأن المشاركين فى مسيرة ذكرى ٢٥ يناير التى خرجت فيها شاهدوا قتلها بواسطة خرطوش الشرطة. ومن ثم كان من الصعب اللعب فى أدلة القضية. ولترهيبهم فإن الشهود تحولوا إلى متهمين، ولم تتم تبرئتهم إلا بعد نحو أربعة أشهر، ولم يعرف مصير الضابط المتهم بقتلها.

ما حدث مع إسلام وشيماء نموذج لآلاف الحالات المماثلة التى شهدتها مصر بعد ثورة ٢٠١١. ذلك ان أحدا لم يعرف من الذى قتل ثوار يناير من ذلك العام. كما لم يعرف من المسئول عما جرى فى أحداث ماسبيرو أو فى فض الاعتصامات وصولا إلى قتلى قسم شرطة المطرية وقسم المنصورة أو استاد بورسعيد والدفاع الجوى، مرورا بقتل رجال الجيش والشرطة فى

سيناء وواحة الفرافرة.

ورغم أننا لم نعرف من المسئول عما أصاب شباب الثورة فى عام ٢٠١١ أو حقيقة ما أسفرت عنه المظاهرات والأحداث التى تلت ذلك التاريخ. إلا أن الذى نعرفه ثلاثة أمور. الأول ان التراكم أوصل المجتمع المصرى إلى درجة مقلقة من الاحتقان. الثانى أن العنف لم يتوقف طوال السنوات الأربع الماضية، الأمر الثالث والمهم أن الشرطة عادت إلى سابق عهدها

فى تعاملها مع النشطاء والمجتمع.

(٢)

عدد جريدة «الشروق» الصادر فى ٢٣/٥ الحالى دال على عمق تلك الأزمة. ذلك أنها نشرت على الصفحة الأولى خبرا تحدث عن عرض تقدمت به جهة رسمية للدكتور حلمى الجزار أمين حزب الإخوان (الحرية والعدالة) الذى أطلق سراحه قبل عدة أشهر، لكى يقوم بدور همزة الوصل بين السلطة والجماعة، وهى المهمة التى اعتذر الرجل عن عدم القيام بها.

فى العدد ذاته نشرت الصحيفة حوارا مع الأستاذ عبدالغفار شكر نائب رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان ورئيس حزب التحالف الشعبى اليسارى، تحدث فيه عن مأزق حركة حقوق الإنسان وأزمة الاحتقان المخيم على مصر. وقال إن الداخلية عادت بصورة تدريجية إلى استخدام أساليب ما قبل الثورة. واقترح وقف تنفيذ أحكام الإعدام (١٦٦٥ حكما أيد المفتى تنفيذ

٥٢١ حكما منها)، معتبرا أن ذلك قد يسهم فى تخفيف حالة الاحتقان. فى ذات العدد من «الشروق» كتب الدكتور ناجح إبراهيم القيادى السابق فى الجماعة الإسلامية مقالة كان عنوانها «بين الإعدامات والاغتيالات»، انتقد فيها السلطة والإخوان. ومما قاله انه فى حين لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين فإن الدولة تلدغ من نفس الجحر عدة مرات، والإخوان وحلفاؤهم

يكررون الخطأ الواحد مرات عدة، دون أن يفكر كل منهما فى طريق آخر يجنبه تكرار الأخطاء.

لم يكن ذلك أول كلام فى الموضوع بطبيعة الحال. ذلك ان الموضوع طرح فى كتابات عدة خلال السنة الأخيرة ناقشت فكرة المصالحة الوطنية من زوايا مختلفة. وفى كل مرة أثير الموضوع فإنه استقبل بحسبانه دعوة إلى المصالحة مع الإخوان، ومن ثم قوبل بعاصفة من الاعتراضات والهجوم. وكانت وقائع أحداث السنوات التى أعقبت ثورة يناير ٢٠١١ ذخيرة أساسية

استند عليها المعارضون، ومن ثم كانت الخلاصة انه فى الوقت الراهن لا بديل عن الإبقاء على الوضع كما هو عليه. الأمر الذى يعنى أنه ليس هناك أفق لعلاج الاحتقان فى الأجل المنظور. ويعنى على مستوى آخر ان المعركة ضد «الإرهاب» والتعبئة المستمرة لصالحها ستظل فى موقعها، على رأس أولويات وأجندة «المشروع الوطنى» فى مصر، بما يستصحبه

ذلك من تداعيات تقتضى ترحيل كل ما عدا ذلك.

(٣)

حين نشرت الصحف المصرية فى ١٩/٥ الحالى التصريحات التى أدلى بها السفير الألمانى لدى مصر فى لقائه مع الصحفيين المصريين وقال فيها إن القاهرة لم تقدم دليلا مقنعا على تورط الإخوان فى الإرهاب، فإنه ذكرنى بصيحة الطفل فى القصة الشهيرة: انى أرى الملك عاريا. ذلك ان السفير هانز بورج هابر قال انه لم يكن معجبا بحكم الإخوان، لكنه ذكر

المعلومة التى يتداولها أغلب السفراء الأجانب ولا يجهرون بها لأسباب تتعلق باللياقة والحسابات الدبلوماسية. رغم أنها باتت ضمن ما أصبح الآن من المسلمات فى مصر فى حين أن الدبلوماسيين الذين يتحرون حقائق ما يجرى فى البلد كى ينقلوا الصورة الصحيحة إلى عواصمهم لا يقتنعون بصحتها. وما ذكره السفير الألمانى هو ذاته ما توصلت إليه الحكومة

البريطانية التى شكلت فى عام ٢٠١٤ لجنة خاصة لبحث الموضوع بطلب من مصر والإمارات والسعودية، ولكنها أجلت خمس مرات إعلان نتائج أعمال اللجنة مجاملة للدول الثلاث. إلا أن الفينانشيال تايمز فى ٣٠/١٢/٢٠١٤ والإندبندنت فى ١٦/٣/٢٠١٥ ذكرتا أن التقرير لم ير مبررا لإدراج الإخوان ضمن الجماعات الإرهابية. وهو ما لم يعد يجرؤ أحد على

الجهر به فى مصر، إلا إذا كان فى سذاجة الطفل الذى تحدثت عنه القصة الشهيرة التى كتبها الدنماركى هانز كريستيان أندرسون فى بداية القرن العشرين. وهى تدور حول اثنين من المحتالين اقنعا أحد الملوك بأنهما سيصنعان له ثوبا من خيوط سحرية مذهبة لن يراها سوى الأذكياء ونبهاء القوم، وسيعجز عن رؤيتها الحمقى والأغبياء. وبعد ان حصلا منه على الأموال

وجهزا للمهمة أنوالا وخدعا مبعوثى الملك الذين أوهماهم بأنهما منهمكان فى صناعة الثوب الوهمى، الذى لم يروا له أثرا. ولكنهم أيدوهما فى ادعائهما حتى لا يصنفوا ضمن الأغبياء والحمقى. وذهب المحتلان إلى الملك خاويى الوفاض وأقنعاه بأنه ارتدى الثوب العجيب، لكنه حين خرج إلى قومه فإن أحدا لم يجرؤ على إبلاغه بالحقيقة، سوى ذلك الطفل الذى قالها

بتلقائية معلنا أنه يرى الملك عاريا!

مشكلتنا فى مصر أن حقائق السنوات الأربع الماضية لم تنكشف بعد، وإنما جرت صياغتها ورويت وقائعها على نحو شكل إدراكا أصبح يمثل عائقا أمام أى جهد يبذل لتحقيق الوفاق الوطنى واستعادة الاصطفاف المبهر الذى ظهر فى ميدان التحرير خلال أيام ثورة يناير ٢٠١١. لا أتحدث عن ملف الإخوان الذى هو مجرد نموذج أثاره السفير الألمانى بعدما أصبح

محورا للصراع خلال العامين الأخيرين، لكننى أعنى مجمل الأحداث التى تلاحقت منذ ٢٥ يناير، التى منها قتل المتظاهرين وموقعة الجمل وأحداث محمد محمود وفتح السجون وموقعة ماسبيرو. وهذه كلها لا علاقة لها بالإخوان. وقد سبق أن قلت إن المصالحة الحقيقية المنشودة هى مع ثورة ٢٥ يناير ومع المجتمع الذى حملها وليست فقط مع الإخوان الذين يظلون أحد

عناوين المشكلة وليس صلبها أو جوهرها.

(٤)

إذا حاولنا التدقيق فى النقطة الأخيرة، فسنكتشف أن لدينا تاريخين لسنوات ما بعد الثورة وليس تاريخا واحدا. الأول كتبته جهات مستقلة والثانى رعته السلطة وقام الإعلام بتسويقه. التاريخ الأول له وثائقه ومصادره الموجودة والمحجوبة أو المدفونة، فى المقدمة منها ما يلى: تقرير لجنة تقصى حقائق أحداث الثورة عام ٢٠١١ الذى أعدته لجنة المستشار عادل قورة رئيس

محكمة النقض الأسبق الذى أعد فى أكثر من ٤٠٠ صفحة ــ تقرير لجنة تقصى حقائق مرحلة المجلس العسكرى الذى أعدته لجنة المستشار محمد عزت شرباص نائب رئيس محكمة النقض وصدر فى جزءين من ٧٢٤ صفحة ــ تقارير المنظمات الحقوقية المستقلة التى غطت المرحلة الثالثة التى مثلت فى حكم الدكتور محمد مرسى والإخوان، والتى تابعت المرحلة

الرابعة التى تولى السلطة فيها الرئيس عبدالفتاح السيسى. وكل هذه الوثائق جرى استبعادها ولم يعد لمضمونها أى ذكر.

التاريخ الثانى صاغته المؤسسة الأمنية والدولة العميقة على نحو يختلف بصورة كلية عما سجلته وثائق المصادر المستقلة. وهذا التاريخ هو الذى أدى إلى تبرئة مبارك وأعوانه الذين أفسدوا البلاد وأذلوا العباد طوال ثلاثين عاما. وإلى تبرئة الشرطة من قتل متظاهرى الثورة رغم أن تقرير لجنة تقصى الحقائق الأول أدانهم بعبارات صريحة وقاطعة. وبالصورة التى

قدم بها فإنه كان بمثابة إدانة فعلية للثورة التى وصفها أحدهم فى الأجواء الجديدة بأنها عملية قامت بها «جحافل الرعاع الذين قادهم رهط من العملاء والخونة والجواسيس» (الأهرام ١٢/٤/٢٠١٥).

الوصف الدقيق للتاريخ الجديد الذى نمت صياغته وجرى تعميقه يجد المرء نموذجا له فى رواية جورج أورويل الشهيرة «١٩٨٤» الصادرة عام ١٩٤٩، التى تحدث فيها عن نظام الأخ الكبير والدور الذى قامت به «وزارة الحقيقة» فى عرض الأحداث وصياغة الأخبار بالصورة التى تخدم النظام وتبرر ممارساته. وكيف قامت وزارة الحب (الداخلية) برعاية النظام

العام من خلال شبكات الرصد المبثوثة فى بيوت أعضاء الحزب (التنصت على الهواتف وتسجيل المحادثات يؤدى المهمة الآن)، ولشحن الرأى العام وتعبئة الجماهير فرض على الجميع ان يعبروا عن مشاعر كراهيتهم لعدو النظام خلال دقيقتين كل يوم. مع تنظيم أسبوع للكراهية فى مواسم معينة لتكريس الخصومة وتجديد الولاء للأخ الكبير.

(٥)

الشاهد أننا صرنا بإزاء موقف معقد قلبت فيه الأحداث رأسا على عقب بحيث طمست الحقائق وشكلت المدارك على نحو أصبحت كراهية الآخر من سماته التى أعادت رسم الخرائط بصورة هددت أسس الوفاق والتعايش. وكانت النتيجة أن الأجواء باتت رافضة للتعايش ومرحبة بخطاب كتائب الإقصاء والإبادة. وفى ظل خلفية من ذلك القبيل فإن أى حديث عن

المصالحة والاصطفاف الوطنى يصبح لا معنى له ولا جدوى منه. بل صار نوعا من الثرثرة السياسية التى يريد بها البعض تسجيل مواقفهم وإثبات حسن نواياهم. وهو ما يسوغ لى أن أقول إن الكشف عن الحقائق هو المدخل الوحيد للانتقال إلى الإنصاف والمصالحة. وتلك عقدة لا سبيل إلى حلها فى الأجواء الراهنة ــ للكلام بقية أعرضها فى الأسبوع المقبل بإذن الله.

المصدر

 

زر الذهاب إلى الأعلى