أعمدة

فهمي هويدي | يكتب : تحرير العالم العربى أولًا

فهمى

حادث اقتحام المسجد الأقصى يسلط ضوءا كاشفا على الفروق بين عرب ستينيات القرن الماضى وبين عرب الألفية الثالثة. آنذاك ـ فى صيف عام ١٩٦٩ ـ أقدم أحد المستوطين الصهاينة ـ استرالى الأصل اسمه دينيس مايكل ـ على محاولة إحراق المسجد الأقصى (يوم ٢١ أغسطس) فأشعل النيران فى الأثاث والسجاد ومنبر صلاح الدين، مدعيا أنه أدى واجبا دينيا وأقدم على فعلته تنفيذا لنبوءة فى سفر زكريا. وانتهى الأمر بإحراق نحو ١٥٠٠ متر مربع من المسجد الكبير من ٤٤٠٠ متر من كل مساحته، (الثلث تقريبا). إلا أن الحدث لم يمر لأنه أحدث دويه الكبير فى العالم العربى الإسلامى. لذلك تداعى رؤساء وزعماء تلك الدول إلى اجتماع عاجل عقد بعد شهر فى الرباط ـ العاصمة المغربية ـ يوم (٢١ سبتمبر)، وصدر عن الاجتماع بيان أعلن فيه الزعماء الذين مثلوا ٢٩ دولة: إن حكوماتهم وشعوبهم عقدت العزم على رفض أى حل للقضية الفلسطينية لا يكفل لمدينة القدس وضعها السابق لأحداث يونيو (حزيران) عام ٦٧. وفى ذلك الاجتماع تقرر تشكيل إطار لتحرك تلك الدول عرف فيما بعد باسم منظمة المؤتمر الإسلامى (أصبحت لاحقا منظمة التعاون الإسلامى).

حادث الاقتحام الذى وقع قبل أيام (يوم الأحد ٢٦ يوليو) دعا إليه اتحاد منظمات الهيكل. فيما سمى بذكرى «خراب الهيكل» إذ قامت مجموعة ضمت ٣٠٠ مستوطن يتقدمهم وزير الزراعة فى الحكومة الإسرائيلية الحالية ـ اروى اريئيل ـ باقتحام المسجد من أبواب المغاربة والسلسلة وحطه تحت حراسة أمنية مكثفة بدعوى إقامة طقوس وشعائر تلمودية فى داخله، ولأن اتحاد منظمات الهيكل كان قد وجه تلك الدعوة فى وقت مبكر، فإن ذلك استنفر عرب ٤٨ الذين تقاطروا إلى محيط المسجد فى ساعة مبكرة من صباح الأحد. بعضهم دخل إليه والبعض الآخر أوقفته الشرطة ومنعتهم من الوصول إلى المكان، إذ لم تسمح لمن هم دون الخمسين من العمر بدخول المسجد، رجالا كانوا أم نساء. وكانت قوات الاحتلال قد نشرت حواجز حديدية على مداخل البلدة القديمة فى القدس. ونشرت عناصرها فى المنطقة لتوفير الحماية لمسيرة المستوطنين وكان طبيعيا أن يؤدى ذلك إلى وقوع اشتباكات عنيفة بين الطرفين. المستوطنون وقوات الاحتلال من جانب. والمصلون وحراس الأوقاف وسدنة المسجد الأقصى من جانب آخر. واستخدمت شرطة الاحتلال قنابل الغاز والعيارات المطاطية فى المواجهات التى أسفرت عن إصابة العشرات واعتقال آخرين من الفلسطينيين.

عقب محاصرتها واقتحامها المسجد القبلى قامت قوات الاحتلال بإخراج حراس المسجد الأقصى منه وأغلقت أبواب المصلى بالسلاسل. كما منعت موظفى الأوقاف من الدخول إلى باحته. فى حين ظل المئات من الفلسطينيين مرابطين فى محيط الأقصى تحسبا لأى هجوم آخر من المستوطنين.

الشيخ عزام الخطيب مدير أوقاف القدس وشئون المسجد الأقصى اعتبر وجود وزير الزراعة بالحكومة على رأس المقتحمين بمثابة «تغيير» جديد فى سياسة الحكومة، الأمر الذى ينذر بوقوع المزيد من الاقتحامات.

اعتداءات المستوطنين على المسجد الأقصى والإصرار على تدنيسه وهتك حرمته إلى جانب الاعتداءات المستمرة على المقدسات الإسلامية والمسيحية. يعد حلقة فى مسلسل تهويد المدينة وإزالة آثار الوجود الإسلامى والمسيحى بها. وهو المسلسل الذى تتصاعد مؤشراته فى ظل عوامل ثلاثة هى: سياسة الحكومة الإسرائيلية وتعاظم دور المستوطنين والمجموعات الأكثر تطرفا، وانشغال العالم العربى بصراعاته الداخلية ومعاركه الأخرى التى أدت إلى تراجع القضية الفلسطينية فى أجندة أولويات دول المنطقة.

ماذا كان رد فعل العالم العربى على تلك الجرأة التى مارسها المستوطنون وساندتها الحكومة، التى بلغت حد المطالبة بإغلاق المسجد الأقصى فى وجوه المسلمين فيما أسموه ذكرى خراب الهيكل، لكى يؤدى فيه المستوطنون طقوسهم التلمودية. كانت فعاليات عرب الداخل الفلسطينى قد أصدرت عدة بيانات حذرت فيها من مخططات اقتحام الأقصى وأصدرت لجنة القدس باتحاد الأطباء العرب نداءات دعت إلى فضح المخطط وإدانته، إلا أن الصدى فى العالم العربى لم يتجاوز حدود بيانات الاستنكار والشجب من جانب الجامعة العربية وبعض العواصم، التى ظلت تطالب الآخرين والمجتمع الدولى بأن يفعلوا شيئا لإنقاذ القدس، وكأن العالم العربى عاجز أو غير مكلف بفعل أى شىء.

أعتبر اجتماع القمة الإسلامية فى عام ١٩٦٩ نموذجا ولا علاجا ناجعا، لكنه بمعايير الحد الأدنى كان معبرا عن أن هناك أمة لها صوت وإن قصرت عن الفعل. ولم يكن ذلك هو الفرق الوحيد. ذلك أننا حين نقارن بين الحالتين فلا ينبغى أن ننسى أن جريمة إحراق الأقصى وقعت بعد سنتين من هزيمة يونيو ٦٧، أعنى أن العالم العربى حينذاك كان غارقا فى أحزانه ولايزال يلعق جراحه. مع ذلك كان للعالم العربى رأسا تمثلت فى قيادة جمال عبدالناصر، وكان الوعى مستقرا على أن فلسطين هى قضية العرب المركزية، وكان العدو واضحا والرؤية الاستراتيجية محسومة. ثم كان الصف الفلسطينى موحدا بصورة نسبية تحت قيادة منظمة التحرير. كما كان للقطب السوفييتى دوره فى إحداث التوازن فى الساحة الدولية. وتلك عوامل اختلفت كلها فى الوقت الراهن فلا رأس ولا رؤية استراتيجية والملف الفلسطينى تراجعت أولويته. كما أن أمل الوحدة العربية تبدد بحيث صرنا نتطلع إلى يوم تتحقق فيه وحدة القطر الواحد وليس وحدة الأمة. والصف الفلسطينى تشتت وانقسم كما نعلم، والتوازن الدولى اختل بعد انتهاء عصر القطبين، إلى غير ذلك من الدروس والعبر التى خلاصتها أن تحرير فلسطين ينبغى أن يبدأ بتحرير العالم العربى أولا.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى