أعمدة

فهمي هويدي | يكنب : ضبط النفس

فهمى
لا أجد نداء واجب الإطلاق فى مصر هذه الأيام سوى الدعوة إلى «ضبط النفس». ذلك أن صدمة اغتيال النائب العام كان لها دويها، الذى ترددت أصداؤه فى أركان السلطة وشرائح المجتمع. الأمر الذى أحدث درجة مشهودة من الانفعال والغضب. لكننى أزعم أن التفرقة فى هذا الصدد واجبة بين دور ومسئولية كل منهما. ذلك أن انفعالات المجتمع لا ضابط لها ولا سيطرة عليها لأننا نتحدث عن بحر من البشر متعدد الاتجاهات والأمزجة، وربما الهويات أيضا، فضلا عن أنه فى الحالة المصرية يفتقد إلى المؤسسات التمثيلية، التى تعبر عنه وترشد انفعالات الناس فيه. فلا برلمان ولا مجالس محلية وحال النقابات لا تختلف فى الهشاشة والضعف عن حال الأحزاب الذى يبعث على الرثاء. وحين يكون المجتمع بهذه الدرجة من الضعف، فلك أن تتصور حجم تأثير وسائل الإعلام فيه، خصوصا الإعلام التليفزيونى، الذى أسهمت عوامل عدة ــ يطول شرحها ــ فى تحويله إلى بوق للسلطة يؤدى دور التهليل تارة والتهييج والتحريض تارة أخرى (لا تسأل عن دوره فى الترويح والتثقيف والتربية).

الأمر مختلف بالنسبة للسلطة التى هى كيان محدد ومنضبط له أدواته وقوانينه المنظمة. من ثم فإذا كان انفعال قطاعات المجتمع وشططها مفهوما، فإن الأمر لابد أن يختلف مع السلطة. ذلك أنها لا تغضب ولا تنتقم أو تثأر، لأن هناك دستورا وقانونا ومصالح عليا تتحراها فيما تتخذه من قرارات. والانتقام والثأر إذا كان مقبولا فى سلوك الأفراد والعائلات والقبائل، إلا أنه يستغرب فى القرارات السياسية ومواقف الحكومات. وللأسف فإن التعجل والانفعال كانا واضحين فى القرارات التى اتخذت خلال الأربع والعشرين ساعة التى أعقبت اغتيال النائب العام. أتحدث مثلا عن قرار تغيير اسم ميدان رابعة بمدينة نصر ليحمل اسم المستشار هشام بركات (أغلب الظن لأن الميدان ارتبط باعتصام الإخوان عام ٢٠١٣، رغم أن صلته الحقيقة بالمسجد الذى بنى منذ ٥٢ عاما وحمل اسم (رابعة العدوية). وهو ما ينسحب أيضا على القرارات الأهم التى اتخذت بشأن تعديل بعض القوانين وإجراءات التقاضى. وقل مثل ذلك عن مسارعة هيئة الاستعلامات إلى اتهام الإخوان بالمسئولية عن الحادث بعد ساعات متعددة من وقوعه، وقبل أى تحقيقات أو تحريات من أى نوع.

لست ضد اتخاذ أية إجراءات مما سبق، ولكن تحفظى ينصب على مبدأ الاستعجال والانفعال، قبل إعطاء الوقت للدراسة والتحليل والرجوع إلى أهل الاختصاص خصوصا فى مسألة تعديل القوانين، التى قد تستجيب لانفعالات اللحظة أو المرحلة، لكنها تضر بضمانات العدالة والثقة فى القضاء.
استطرادا، فليس مفهوما ذلك الإصرار على توجيه الاتهام بناء على التخمين أو استلهاما لاتجاه الريح السياسية. فى حين أن فى البلد أجهزة معلومات وجهات تحقيق وقضاء يفترض أن تتولى هذا الشق، إذ هى المنوطة بتحديد الفاعلين فى ضوء الأدلة والشهادات، قبل أى جبهة أخرى. أما أن يتم القفز فوق مراحل التحقيق والقضاء لتصدر الأحكام تبعا للأهواء أو استرشادا بجولات الصراع السياسى، فهو أمر لا يسىء إلى العدالة فحسب، ولكنه يسىء إلى السياسة أيضا.

الشاهد أن الانفعال والاستعجال سمتان لموقف السلطة التى ربما أرادت أن تتفاعل بسرعة مع غضب الرأى العام إزاء الجريمة التى وقعت والفشل الأمنى الذى كشفت عنه وإزاء تعثر جهود مواجهة الإرهاب خلال السنتين الماضيتين. إلا أن موقف بعض المثقفين كان أسوأ وأضل سبيلا، بل بدا مخجلا ومشينا. إذ لم يقتصر الأمر على الأصوات التى دعت إلى ضرورة التوسع فى القمع وإغراق البلد فى بحر من الدماء، وإنما أطلق نفر منهم الدعوة إلى مسمى بتطهير أجهزة الدولة ومؤسساتها من عناصر الإسلام السياسى، فى تبشير بحملة ترويع جديدة تعيد إلى الأذهان ذكريات عار المكارثية التى عانت منها الولايات المتحدة فى خمسينيات القرن الماضى (عشرة آلاف طردوا من وظائفهم بتهمة الشيوعية)، الأدهى من ذلك والأمر أن آخرين تحدثوا عن إعلان الطوارئ بما يمكن أن يدخل مصر فى نفقها المظلم مرة أخرى (حتى تعود رسميا إلى عصر مبارك).

حين دعوت إلى ضبط النفس فإننى اعتبرت ذلك حدا أدنى لمحاولة عقلنة الموقف. لأن الدعوة لم تكن تضمن حلا لأى مشكلة، وإنما استهدفت عدم الإقدام على أى تصرف يجعل الأمور أسوأ مما هى عليه، وربما إعطاء الفرصة للتهدئة والتفكير فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن حتى ذلك الأمل المتواضع يبدو أن تحقيقه صار متعذرا. لأن الحلول القمعية والأمنية لا تزال سيدة الموقف، أما العقل السياسى فهو فى إجازة طويلة، لأن رد الاعتبار للعقل أولا وللسياسة ثانيا أمر بات صعب المنال فى الأجل المنظور على الأقل.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى