أعمدة

محمد المنسي | يكتب : السلام الصعب في كولومبيا

%d9%82%d9%86%d8%af%d9%8a%d9%84

كولومبيا دولة بعيدة، أو هكذا تبدو، لا صلة مباشرة تربطنا بها ، حتى المخدرات يبدو أننا نستوردها من جهات اقرب، رغم ذلك فهناك خيط خفي يربط بيننا وبينهم، كولومبيا هي المنتج الاول للمخدرات في امريكا اللاتينية، ملوكها اشد سطوة من بعض الملوك الذين لهم ممالك حقيقية، وفريقها لكرة القدم مرشح دائما للفوز بكأس العالم، ولكنه مثل المنتخب المصري يتخاذل دائما عند المباريات الكبرى، الامر الذي استدعى تجار المخدرات ليقوموا بقتل لاعبا اضاع ضربة جزاء في مباراة مهمة، وهذه ليست بالطبع دعوة لتجار المخدرات للتدخل في الرياضة المصرية، لكن الأهم أنها البلد التي اخرجت واحدا من اعظم الروائيين في التاريخ، جابرييل جارثيا ماركيز، الكاتب الوحيد الذي تحسدها امريكا عليه، وربما بقية العالم.

معضلة الحرب والسلام تستدعي كولومبيا لمقدمة الاحداث، فالرئيس خوان مانتوس يريد أن ينهي اطول حرب اهلية في التاريخ، استمرت على مدى 52 عاما، ولكن الشعب يرفض أن يغفر أو يتسامح، اعلن عن رفضه لاتفاق المصالحة الذي وقعه الرئيس في سبتمبر الماضي مع اثنين زعماء الجيش الثوري «فارك» ، مازال معلقا ، ومن يقرأ رواية مائة عام من العزلة يدرك أن ماركيز قد اصابه اليأس من انتهاء دوامة الحروب الأهلية، التاريخ الفعلي والدامي لبلده، لذلك لم يشأ الرئيس مانتوس أن يتحمل المسئولية وحده، طرح الاتفاقية للاستفتاء الشعبي، وكانت الاجابة «لا» كبيرة مدوية، ومرة أخرى تجددت الأزمة السياسية ولكن القتال قد توقف أخيرا، مؤقتا على الاقل.

«فارك» اختصار لاسم الجيش الثوري الكولومبي، منظمة تأسست كذراع عسكري للحزب الشيوعي في أواخر التسعينات، ضد الاقطاعيين ، والحكومات الخاضعة للنفوذ الامريكي، والجيش النظامي، كانت تحمل اهدافا نبيلة، ولكن نشوة القتال قد شوهتها، حولتها إلى عصابات فعلية، رفع الحزب الشيوعي يده عنها بعد أن غرقت في دوامة القتل الجماعي والاختطاف وابتزاز ملاك الاراضي، وفي النهاية تحالفوا مع مهربي المخدرات، دائما ما يكون بينهما حلف غير مقدس بين الاثنين، الثوار يبحثون عن التمويل السخي الذي لا ينفد، والمهربين يبحثون عن حماية من هجمات الشرطة والجيش، مصلحة مشتركة تتعقد خيوطها في كل مكان يضم هذه النوعية من البشر، في افغانستان بين فلول طالبان وتجار الافيون، وفي المثلث الذهبي بين الخمير الحمر في كمبوديا، وفي سيناء بين التكفيريين وعصابات تهريب المخدرات والاعضاء البشرية، وهكذا تستطيل الحروب، وتتطور اسلحة جماعات التمرد، وتستولى على المزيد من الاراضي، داعش استولت على خمس سوريا والعراق بواسطة النفط المهرب، وفارك استولت على ثلث كولومبيا بواسطة الهرويين المهرب، غابات وقري وجبال وانهار ظلت على مدى نصف قرن في قبضة العصابات المسلحة، تقبض عليها مثلما تقبض اسرائيل على الارض العربية المحتلة، انها حرب مستحيلة لن تنتهي بانتصار اي طرف، ولابد من الوصول لسلام باي ثمن؟

لم توقع المعاهدة فجأة، كان الجميع في كولومبيا في انتظارها، الجميع ارتدوا الثياب البيضاء، ارتفعت اغان السلام من النساء والاطفال، جو عاطفي من البهجة، وظهر الرئيس وهو يلقي خاطبا، ولكن كل شيء تغير عندما ظهر زعيم فارك ذو الاسم الصعب «تيموشينكو» للمرة الاولى على شاشة التلفزيون، تابعه الناس بخوف وفضول، واستمعوا إلى نهاية خطابه المؤثر وهو يعتذر للشعب عن كل الذين قتلوا وعن الألم الذي سببته منظمته للناس العاديين، صفق البعض، وانهمرت دموع البعض الآخر، هناك حاجة شديدة للغفران حتى تلتئم جراح الأمة، ولكن مشاعر الغضب كانت اقوى من كل امنيات السلام، من الصعب على الجميع ان يقبلوا سقوط العقوبات عن كل الجرائم، الغفران لكل الجرائم الدموية، ان يخرج القتلة من الادغال ليسيروا في شوارع المدن، عليهم أن يبقوا داخل الادغال بدلا من أن ان تكون لهم مقاعد دائمة في مجلس النواب لمدة دورتين دون انتخابات، اصبح من الصعب فجأة قبول هذا السلام المر، رئيس كولومبيا السابق «اوريبي» قاطع الاحتفال، أخذ يطوف البلاد في حملة صارخا: نحن جميعا نريد السلام، ولكن ليس هذا السلام، اوريبي الذي حكم كولومبيا على مدى ثماني أعوام من شخصية مختلفة عن سانتوس، فهو ليس سليل عائلة ثرية ولكنه كاثوليكي محافظ، اسرته من رعاة الماشية، كان الاثنان حليفين في وقت ما ، شارك سانتوس في حكومة اوريبي كوزير للدفاع، وشارك في الحملة التي قامت بها امريكا للتخلص من تجارة المخدرات، وقد اضعفت هذه الحملة فارك ولكنها لم تقض عليها، وحدث الانفصال بينهما عندما حاول اوريبي تغير الدستور ليظفر بفترة رئاسة ثالثة، وتغلب سانتوس عليه واصبح رئيسا بدلا منه، ولكن عندما اعلن سانتوس أنه في سبيله للتفاوض مع فارك اتهمه اوريبي على الفور بالخيانة وبدأ على الفور حمله لمعارضته.

المعارضة تعتبر أن الاتفاقية ماهي إلا استسلام لشروط فارك، وسوف تتيح الفرصة للأجنحة اليسارية التابعة لكاسترو للاستيلاء على كولومبيا ، أي أن هذه الفرق المتمردة ستكافأ نظير تمردها وسوف يغل هذا يد العدالة التي يجب أن تطولهم، فيجب ان ينفذ حكم الاعدام على كل من تلوثت أيديهم بالدماء، وقبل ذلك لابد من الحصول على اعترافات كاملة بوصفهم جميعا مجرمي حرب، ولا يشمل هذا مقاتلي فارك فقط، ولكنه يشمل بعض رجال الجيش والبرلمانيين وبعض المدنيين أيضا الذين تعاونوا معها.

وقف اطلاق النار مازال ساريا، وآلة القتل وصلت إلى ادنى مستوياتها، شيء ايجابي في بلد تشرد فيه سبعة مليون شخص عن منازلهم، ومات ربع مليون شخص، وهذا يجعل ثمن السلام مستحقا، ويجعل الاتفاق مستمرا لأن هناك حاجة ملحة إليه.

هل يمكن عقد اتفاق مماثل له في سيناء؟ الظروف بالطبع مختلفة، ولكن هناك حرب مشتعلة لا نعرف مداها ولا متى ستنتهي، لا نعرف عدد المتمردين ولا من يزودهم بالسلاح، وكلما حسبنا اننا قد قضينا عليهم فاجأونا بضربة قوية، هذا هو الخيط الرفيع الذي يربطنا بكولومبيا، خيط من نزيف الدم، هل يمكن ان نقبل بطعم السلام المر، وأن نمهد الطريق لهؤلاء المتمردين حتى يتركوا هضاب سيناء ويهبطون إلى مدننا؟ الاسئلة صعبة لأن الوضع صعب ، علينا أن نفكر في هذه التجربة البعيدة وندرك أن كولومبيا ليست بهذا البعد.

المصدر

 

زر الذهاب إلى الأعلى