أعمدة

محمد المنسي قنديل | يكتب : دراكيولا.. مرة تانية

056f0c9942d0b25288b8ba0fb7e3bb02_123628275_147

كانت رواية دراكيولا (1878) هي الانتقام الخاص للمؤلف برام ستوكر، كان يعمل مديرا لأحد المسارح في لندن بعد أن غادر بلدته في أيرلندا، يراقب في كل ليلة أفراد الطبقة الأرستقراطية وهم يدخلون مسرحه، بكل مظاهر العنجهية والتعالي التي تبدو عليهم، كانوا رمزا لإنجلترا التي تتسيد العالم في ذلك الوقت، بثورتها الصناعية الناهضة، وسفنها التي تسيطر على البحار، وقوتها الضاربة التي تنشرها على الأرض، لكنه لم ير في هؤلاء اللوردات إلا مخلوقات ليلية كالخفافيش، تتغذى على مص دماء البشر، تخشى مواجهة ضوء الشمس، لا تعرف الموت، خلودها زائف، يجعلها تتعفن وهي على قيد الحياة، ويحرمها من راحة الموت.

انتشرت شخصية دراكيولا لدرجة مرعبة، واعتقد الكثيرون أنها حقيقية، وأن مصاصي الدماء يتجولون بيننا بالفعل، وما زال هناك من يؤمنون بذلك، وعندما تحولت الرواية إلى الشاشة الفضية عام 1927 أصيبت النساء بالإغماء من شدة الهلع، وتجمعت عربات الإسعاف عند باب السينما، رغم أن هذا الفيلم لم يكن ناطقًا وبالأبيض والأسود، وحتى الآن فقد أنتج نحو 150 فيلمًا عن دراكيولا، منها فيلم مصري قام ببطولته المطرب الشعبي أحمد عدوية، ولا يمكن لهواة هذا النوع من الأفلام أن ينسوا فيلم “رومان بولانسكي” الغريب الذي كان عنوانه ” عفوًا.. ولكن أسنانك في عنقي” والذي أحدث تحولا في معالجة الحكاية القديمة، ليس لأنه في مشهد رائع يستحضر كل الطبقة الأرستقراطية الأوروبية من الموت في حفل راقص، ويحقق رؤية ستوكر من أن كلهم مجرد مصاصي دماء، ولكن لأنه لا يعترف بالنهاية التقليدية التي يتم فيها التخلص من مصاص الدماء، فهو يجعله ينجو من كل محاولات الاصطياد، ويجعل شره ينتشر إلى كل مكان في العالم، فهذا المخرج الذي لقيت زوجته مصرعها في إحدى المذابح الشهيرة كان يؤمن بأن الشر هو جزء متأصل من عالمنا المعاصر.
لم تنقطع أفلام مصاصي الدماء، لا من الشاشة الصغيرة ولا الكبيرة، ولم يتوقف المؤلفون حتى المشهورون منهم عن محاولة إعادة كتابة هذه الرواية في صور جديدة، ستيفن كينج وآن ريس مؤلفة المسلسل التليفزيوني “يوميات مصاص الدماء”، وقد زاد شغف المراهقين الذين أصبحوا يمثلون أغلبية جمهور السينما، وأغلبية الممثلين في هذه الأفلام والمسلسلات، وقد وصل هذا الشغف إلى قمته مع صدور سلسلة روايات

“الشفق” Twilight، التي باعت 42 مليون نسخة، وحققت الأفلام المأخوذة عنها أرقاما هائلة، وتدور كلها في عالم المراهقة وبين طلاب المدارس الثانوي حين تقع فتاة صغيرة في غرام مصاص دم شاب سريع التقلبات، وتجد نفسها وسط معركة من الذئاب المتحولين، الغريب أن الجمهور لم يقع في غرام الفتاة العاشقة، ولكن المراهقات هاموا حبًّا في الشاب المصاص، تخيلته كل واحدة منهن وهو ينشب أنيابه في عنقها.

كل الذين كتبوا هذا النوع ركزوا على الجانب الجنسي منه، النشوة التي تصاحب ألم العضة، ليس فقط من أجل استلاب الدم ولكن أيضا استلاب الروح.
ورغم أن “دراكيولا” هي فقط مجرد رواية، فقد أثارت كمية كبيرة من الجدل تدخل فيه علماء النفس والاجتماع وحتى المتخصصون في التاريخ، ويحرص الناشرون على إعادة نشرها كل فترة من الزمن، والسبب الرئيسي يعود إلى أسلوب كتابة الرواية نفسه، تقنية السرد المتبعة، فهي تعتمد على أجزاء مقتطعة من يوميات الشخصيات الرئيسية، ورسائل متبادلة وبرقيات، وشهادات من راهبة مجرية، ووثائق من محامين، وشركات النقل، ومقاطع من الصحف، وسجلات السفن، هذا التعدد في الأصوات أكسب السرد طاقة من الحيوية، فقصص الرعب الطويلة يمكن أن تصبح خانقة، من أجل ذلك ظلت حكايات إدجار آلان بو، مجرد قصص قصيرة وليست روايات، فعدد صفحات “دراكيولا” يقارب الأربعمئة صفحة، ولكنها نادرًا ما تكون مملة، الفصول الأربعة الأولى مأخوذة من يوميات جوناثان هاركر، وهي تحكي عن الرعب الذي واجهه خلال رحلته في قلعة دراكيولا في ترانسلفانيا عندما ذهب إليها ليقوم بمهمة قانونية، وعندما ندير الصفحة نجد أنفسنا فجأة وقد أصبحنا في إنجلترا، نقرأ رسالة أرسلتها “مينا” خطيبة هاركر إلى صديقتها “لوسي” تخبرها فيها بأنها تتعلم “الاختزال” حتى تساعد خطيبها جوناثان في عمله، وواضح أنها لم تكن تعلم ماذا حدث لخطيبها.

هذا الاختلاف في الأصوات يترك أثره، كأننا نمسك غرضًا في أيدينا ونديره بين أصابعنا حتى نراه من كل الجوانب، هؤلاء الرواة المختلفون يجعلون الرواية أقرب إلى التصديق.
متعة القراءة هنا هي أننا نتشارك في تجميع أطراف الرواية، فكل راوٍ لا يعرف ماذا قال لنا الراوي الآخر، وهذا يجعلنا نقرأ ما بين السطور، في أحد المشاهد، بينما “مينا” عائدة في المساء إلى المنزل الذي تقيم فيه مع صديقتها لوسي تراها واقفة في النافذة وبجانبها طائر ضخم الحجم، وتفكر لوسي في نفسها بأن هذا الطائر يبدو غريبًا، ولكنه يمت إليها بصلةٍ ما، ونتبين بعد ذلك أن هذا الطائر هو خفاش، واحد من الأشكال التي يتحول إليها دراكيولا، وفيما بعد يقوم الكونت بتدمير لوسي قبل أن يستدير إلى مينا.
هناك العديد من الظروف الاجتماعية والسياسية التي عاشتها إنجلترا في أواخر العصر الفيكتوري وكان لها أثر كبير في تأليف الرواية، ففي هذه الفترة تعرضت البلاد لموجة متتالية من الهجرات من أوروبا الشرقية، خاصة من اليهود بعد المذابح التي تعرضوا لها، وكان هناك رعب من ذوبان الدماء الإنجليزية الأصيلة وسط أعراق مختلفة، دراكيولا نفسه كان مهاجرًا من هذا الشرق الأوروبي، لقد تحدث ستوكر كثيرًا عن الدماء، ليست فقط تلك التي امتصها دراكيولا، ولكن عن مخاوفه العرقية، فقد كان دراكيولا نفسه يحمل ملامح اليهود، الأنف الكبير، حب المال، والشائعات التي كانت تربط اليهود دائمًا بطقوس الدم، أضف إلى ذلك أن لندن كانت تعيش في ظل فضيحة الكاتب “أوسكار وايلد” وتتابع محاكمته بتهمة الشذوذ الجنسي، وتحتوي شخصية دراكيولا على جزء من هذا الأمر، فهو لا يفرق في ضحاياه بين الرجال والنساء، وتسود في كل قصص مصاصي الدم مشاعر جنسية مختلطة من الجنسين، وتأثر ستوكر أيضا وهو يكتب شخصياته النسائية بقضية ظهور المرأة الجديدة والحركة النسوية التي بدأت في البزوغ، وكان يؤمن بأن الله خلق المرأة ضعيفة، ولكنها جيدة، وخلق الرجل قويا ولكنه أقل جودة، لقد جعل مينا هي بطلة الرواية، هي صورة من هذه المرأة ووهبها كل الفضائل، وجعلها تتعلم الكتابة بآلة الاختزال حتى تعمل وتنفق على نفسها، وحتى بعد أن يتمكن دراكيولا من الوصول إلى عنقها تظل تقاوم وتحافظ على إنسانيتها ضد التحول إلى مصاصة دماء.
لم تصبح دراكيولا فقط مجرد رواية، ولكنها تحولت إلى طقس، كل واحد يقوم بدراستها ويستخرج منها ما يشاء، آخر هؤلاء الباحثين استطاع أن يقوم بفحص المخطوط الأصلي الذي كتبه برام ستوكر بخط يده، وهو لا يزال موجودًا ويمتلكه أحد هواة جمع المخطوطات، وقد خرج هذا الباحث بنظرية جديدة تؤكد أن كل أحداث الرواية صحيحة،  وأن يوميات هاركر حقيقية، ولم يفعل ستوكر غير أنه غيّر اسم كاتبها، وقد كتبها هاركر حتى يحذر الإنجليز من أن مصاصي الدماء يعيشون وسطهم بالفعل، وأن ستوكر نفسه كان واحدًا من أتباعهم، لذلك قام بتغيير الأسماء والعناوين، بل واخترع النهاية التي يموت فيها دراكيولا، بينما هو لم يمت في الواقع ، وما زال حيًّا يقتنص ضحاياه ويحولهم إلى أتباع له.
لا ينتهي الجدل، ولا تتوقف المعلومات والدراسات، آخرها هذه المقالة التي تم نشرها في مجلة “نيويوركر” والتي استعنت بالمعلومات الغزيرة فيها في كتابة مقالي مع إجراء بعض التعديلات.

 المصدر

 

زر الذهاب إلى الأعلى