أعمدةمقالات

محمد المنسي قنديل | يكتب : عشق الفساد

محمد المنسي قنديل

ماذا كنا نتوقع أن يختاروا غير فاسد آخر، وربما الأكثر فسادا؟ أليس هذا مقياسا طيبا للزمن الذي نعيشه؟ اختاروا فقط واحدا يشبه كل الذين يتم اختيارهم، لماذا كل هذه الضجة حول اختيار محافظ القاهرة؟ ولماذا الاعتراض حول الرجل وتاريخه المشبوه وحبه الزائد للمال العام؟ إنه مجرد محافظ، سيجلس قليلا في منصبه ويمضي بعد أن يفشل في حل مشكلات العاصمة المعقدة.

كيف كان يمكن في رأيكم أن يتم الاختيار؟ أين يمكن أن نجد رجلا نظيفا وسط فساد ضارب في أعماق الإدارة المصرية حتى الجذور؟! الرجل لا يستحق كل هذا الضجة، والتهم التي تدينه ليست أكثر مما يرتكبه أي مسئول في مصر، لقد تصرف حسب العرف وكما تقضي تقاليد البيروقراطية المصرية، استغل منصبه فورا قبل أن يعزل منه، قام بحلبه حتى يحصل منه على عدة ملايين، لكن الفارق بين مسئول ناجح وآخر فاشل هو القدرة على ترتيب الأوراق وإخفاء الثغرات التي تتسرب منها الأموال، ووفق هذه القاعدة فقد كان السيد المحافظ فاشلا، على الأقل في منصب واحد من المناصب التي تولاها، فعندما كان رئيسا للشركة القابضة لمصر للطيران استولى على أربعة ملايين  وثمانمئة ألف جنيه في صورة مكافآت وبدل اجتماعات، ورغم أنه لم يحسن إخفاءها فقد سارت الأمور سيرها الحسن، مثلما يحدث مع بقية اللصوص من أمثاله فقد ترقى ليصبح وزيرا، استطاع أن يعبر البرزخ بين عهد مبارك وأيام الثورة الأولى ليصبح وزيرا في العهدين، مرة في حكومة أحمد شفيق، وأخرى مع عصام شرف، ولكن الجهاز المركزي للمحاسبات كشف أمر الأموال التي تقاضاها في وظيفة واحدة فقط، وحتى الآن لم ينبشوا في أوراقه أيام كان وزيرا، وكان الأجدر بهم أن يفعلوا، وعندما تم كشف أمره لم يقاوم الرجل طويلا، لأن كل شيء كان مدونا، اعترف بأنه أخذ الأموال وعرض أن يسددها على الفور، دفع مبلغ الخمسة ملايين جنيه إلا قليلا ليتمكن من الإفلات قبل أن يتحول الأمر إلى فضيحة، لم يكن وحده المتورط، بل كان معه مساعده، مدينًا بنفس المبلغ، سددا معًا النقود وأغلقت القضية قبل أن تتحول إلى القضاء، وقد نشرت الصحف كلها وعلى رأسها “الأهرام” خبر واقعة التصالح، لم يصدر عن طرف من أطراف في القضية نفي أو تكذيب للواقعة.

المشكلة أن ذاكرة وسائل الاتصال الاجتماعي لا تصدأ بالتقادم، تبقى علامة افتراضية ولكن فارقة، نقطة سوداء من الصعب محوها، لذلك فقد تذكر الجميع الواقعة بالاسم والتاريخ عندما وقع الاختيار عليه كمحافظ، ويبدو أن المسئولين عن اختياره قد فوجئوا بظهورها أيضا، ولكنهم لم يشعروا بالإحراج،  كعادة أي نظام، في أول الأمر رفضوا التعليق على هذه الوصمة، لأنها لا تستحق التعليق، ثم ثانيا حاولوا بعد ذلك أن يهونوا من شأنها، أعلنوا أنها واقعة ليست مكتملة الأركان، لم ترتق لتكون جريمة، أي أنه ليس لصا كاملا، ولكنه كان لصا شريفا أخطأ فقط في الإجراءات، ثم ثالثا قرر النظام أن ينفي الواقعة من أساسها، فأعلنت أنها كانت مجرد شكاوى كيدية تم حفظها، علما بأن الطرف الشاكي هنا هو أجهزة الدولة وليس مجرد أفراد، وقد أعطى هذا البيان الرسمي للمحافظ نوعا من القوة الوقحة فأعلن للجميع: “أن الهجوم ليس على شخصي وإنما هو هجوم على الدولة”، منتهى التواضع.

هذه حالة نموذجية من حالات عشق الفساد، توضح المدى الذي يذهب إليه بعض المسئولين في عشق الفاسدين وإصرارهم في الدفاع عنه، حسني مبارك كان هو الفاسد الأعظم، كان من عشاق هذه النوعية من الرجال، يحلو له أن يعرف نقاط ضعفهم وأخطائهم وجرائمهم الخفية، وينتهز كل فرصة ليذكرهم بها، لا يبعدهم عن دائرة المحيطين به، ولا يقيلهم من مناصبهم، ولكن يستمتع بإذلالهم وإهانتهم ويدعوهم بأحقر الأوصاف، وكان من مميزات هؤلاء الرجال أنهم لا يعانون كثيرا من الخجل، يمارسون جرائمهم بوقاحة، مطمئنين أن رأس النظام في ظهرهم ولا يسمح لأحد بالنيل منهم، لكن الرأي العام كان غائبا طوال أيام مبارك، لم تكن أدوات التواصل الاجتماعي بهذه الكيفية وكان من السهل قمع الأصوات المعارضة التي كانت قليلة إلى حد ما، اختلف الأمر الآن، فالمواطن المصري الصامت قد نزع قناع الصمت واللا مبالاة، ولم يعد من الممكن أن تمر أمثال هذه التصرفات دون أن يتساءل ويفكر ويعترض، لم يعد من السهل خداعه بإنكار حدوث الوقائع، خاصة أنها مسجلة ومن الممكن استدعاؤها في أي وقت.

المشكلة أن رغبة الشعب المصري في أن يكون طرفا في القرارات التي تخصه هى أمر لم تتعود عليه الأنظمة التي تحكمه، لقد ألفوا جانبه السلبي واللا مبال، وعلى قناعته التاريخية بأن أمور الحكم لا تخصه، وهو أمر صحيح، فقد حكم المصريين أجناس كثيرة دون مبالاة منهم، وأصبحت الصورة الشائعة أنه شعب سلس وطيع من السهل قيادته، ودون بقية المستعمرات كانت بريطانيا تضع في مصر أقل عدد من جنودها حتى يمسكوا بزمام الحكم، ولم يبذل نظام يوليو جهدا كبيرا في الاستيلاء على الحكم وفي توريثه من واحد للآخر، وقد كره جمال حمدان فكرة الشعب الطيع السلس كثيرا، ومات وهو حانق على الشعب المصري، ولكن حكام مصر استثمروها جيدا لحسابهم، ولم يجد حسني مبارك غضاضة في أن يعد ابنه ليرث الحكم من بعده، دون أن يدري أن الزمن قد تغير، وأن الشعب الذي عاش معزولا في واديه تحيط به الصحراوات القاحلة قد قرأ وتعلم وعرف، وأن تكنولوجيا المعرفة قد تدخلت لتوصله بالعالم، لذلك كانت الثورة على مبارك نتيجة هذا التغير، وكانت الثورة التالية على مرسي ومحاولة تفرده هو وجماعته بالحكم، لقد أصبح المصريون طرفا في معادلةصنع القرار، ويريدون أن يأخذوا فرصتهم، رغم أنها حتى الآن غير كاملة، فهناك الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يمرون بها والتي تجعل قدراتهم ناقصة، وهناك مخاوف تحطم الدولة، خاصة ونحن نعيش في خضم الكوابيس السورية والليبية، كل هذا يؤجل من سعي الشعب المصري ولكن هذا لن يستمر طويلا، لا يمكن لأحد أن يواصل خداعه، أو يجعله يبتلع شيئا يمكن أن يغص به،  وما حدث في أزمة المحافظ المشبوه ليس إلا دليلا على ذلك.
على أي نظام بعد ذلك أن يحترم عقول المصريين وأن يعرفوا أنه ليس مثلهم لا يعشق الفساد.

shady zaabl

كاتب صحفي مصري مهتم بالمواقع الإلكترونية وإدارتها وكتابة المقالات في جميع الأقسام وذو خبرة في الصحافة والإعلام والمحتوى لـ 5 سنوات وفقً لدراسة أكاديمية وتطبيق عملي .
زر الذهاب إلى الأعلى